قطعت بطلة قصتنا، عبير إسماعيل، رحلة محفوفة بالصعوبات المتتالية. فمنذ أكتوبر 2023، تحولت غزة، موطنها، إلى ساحة معركة مدمرة حصدت أرواح الآلاف وأصابت أضعافهم. وخلق الصراع المستمر بيئة قاسية حيث أصبح البقاء على قيد الحياة يمثل تحديا يوميا، بينما بات السعي وراء الطموحات التعليمية والمهنية ضربا من الخيال.

في خضم هذا الاضطراب، واجهت عبير، وهي عاملة في مجال الصحة العامة، تحديات هائلة في مواصلة عملها وتعليمها. فقد عانت من خسائر شخصية وإصابات، ناهيك عن انعدام الأمن الذي بات يهدد كل جانب من جوانب حياتها.

ورغم هذه الظروف القاهرة، ظلت عبير مصممة على تطوير مسيرتها المهنية. وفي فبراير 2024، تحولت إرادة عبير إلى حقيقة عندما تم قبولها في برنامج التدريب "Engage" التابع لامفنت. وانضمت من خلاله إلى مركز إدارة طوارئ الصحة العامة (PHEMC).

بتشجيع مستمر من صديقتنها داليا النحال، استمرت عبير بمحاولاتها للتقدم لبرنامج التدريب Engage بالرغم من مواجهة صعوبات جمة، فاتصال الإنترنت كان ضعيفا، ناهيك عن المخاطر التي واجهتها أثناء تنقلها بين المواقع بحثا عن اتصال أفضل.

أظهرت عبير خلال فترة تدريبها صمودا منقطع النظير، حيث برزت مهاراتها في مختلف المهام التي أوكلت إليها. فساهمت في إعداد خطط الاستجابة للطوارئ، وأجرت مقابلات مع نساء حوامل وأشخاص من ذوي الإعاقة، ناهيك عن مشاركتها الفاعلة في إعداد نشرات الطوارئ التي يصدرها مركز إدارة طوارئ الصحة العامة (PHEMC) التابع لامفنت. ولم يقتصر تفاني عبير على أداء المهام الموكلة إليها فحسب، بل سعت جاهدة للتغلب على كافة التحديات التي واجهتها. فقد اضطرت في بعض الأحيان إلى البحث عن الصحفيين للحصول على اتصال بالإنترنت، أو السير إلى أماكن أخرى للبقاء على تواصل مع مرشدها، مدير مركز إدارة طوارئ الصحة العامة في امفنت، الدكتور هيثم بشير.

تقول عبير: "غمرتني السعادة عندما تلقيت بريدا إلكترونيا يفيد بقبولي في التدريب لدى امفنت، خاصة عندما علمت أن التدريب يتعلق بمجال الاستجابة للطوارئ، حيث كنت أعيش ظروفا طارئة بالفعل. لقد أتاح لي التدريب فرصةً ثمينة للانشغال بأعمال ذات مغزى وفائدة، وساعدني على التركيز بشكل أكبر على مستقبلي وعلى الدور الذي أطمح إلى تأديته في إحداث تغيير إيجابي".

أثبتت عبير قدرتها على تحويل التحديات إلى فرص، فقد ثابرت على العمل خلال فترة تدريبها، وتتوجت جهودها بالنجاح عندما أتمت فترة تدريبها مكتسبة مهارات وخبرات غنية في مجال الاستجابة لحالات الطوارئ الصحية العامة، فقد أكملت وحدات تدريبية شملت "مبادئ إدارة طوارئ الصحة العامة" و "إدارة مشاريع الصحة".

ولم تكتف عبير بالمعرفة النظرية، بل ساهمت بشكل فعال في تطبيقها العملي، حيث لعبت دورا محوريا في إعداد مقاطع فيديو سلطت الضوء على الأزمات الصحية العامة في غزة، مما ساهم في إبراز الواقع المأساوي الذي يواجهه السكان المعرضون للخطر خلال الحرب، ونقل معاناتهم للعالم. ولم يمر تفانيها وتأثيرها مرور الكرام، بل حظيت بتقدير امفنت، التي عرضت عليها منصبا بعد انتهاء فترة تدريبها، مما أتاح لها مواصلة عملها الميداني وإحداث المزيد من التغيير الإيجابي.

تتحدث عبير عن تجربتها قائلة: "إن كان لا بد من الخوض في غمار الجحيم، فتقدم ولا تتوقف. لا تستسلم، ولا ترفع الراية البيضاء أبدا. لقد جددت هذه التجربة الأمل لدي، ومنحتني دافعا للصمود".

تواصل عبير سرد قصتها، مسلطة الضوء على التحديات المعقدة التي واجهتها خلال فترة تدريبها. ففي ظل انعدام الأمن، وانقطاع الإنترنت، وصعوبة التنقل؛ كان العمل مستحيلا. وتضيف عبير: "لم تكن هناك منطقة آمنة على الإطلاق، كنت أشعر بالخوف دائما، أينما اتجهت".

ووسط موجة العنف المستمرة والقصف المتواصل، واجهت عبير صعوبات جمة في ممارسة عملها الميداني وحضور الاجتماعات، مشيرة إلى حادثة مروعة تعرضت لها، حيث أصيبت بشظايا أثناء عودتها إلى منزلها بعد انتهاء جلسة مع مرشدها.

تتخطى الصعوبات التي تواجهها عبير حدود المخاطر الجسدية لتصل إلى الأعباء النفسية والعاطفية الثقيلة. فتقول: "لقد تسبب فقدان الأحبة والنزوح المتكرر من مكان إلى آخر بحثا عن ملاذ آمن، بإحداث ضائقة نفسية عميقة وخوف دائم من الموت".

وتشير عبير إلى فاجعة أخرى واجهتها، وهي فقدان زملاء العمل الذين كانوا بمثابة عائلتها، فتقول: "لقد ارتقى جميع الأشخاص الذين كنت أعمل معهم سابقا. لم يبق أحد، لقد رحل الجميع".

خلال فترة تدريبها، حظيت عبير بدعم هائل من فريقها في امفنت. وقد أوضحت ذلك بقولها: "لقد كان الفريق داعما للغاية." لعبت شبكة الدعم هذه دورا جوهريا في مساعدتها على التغلب على التحديات التي واجهتها.

تميزت فترة تدريب عبير بجهودها وإنجازاتها الاستثنائية. فإلى جانب المهام المذكورة سابقا، انخرطت عبير بشكل فعال مع المتطوعين في مبادرات تعزيز الصحة. وعبرت عن شعورها بقولها: "أدركت ضرورة تحمل المزيد من المسؤولية والمبادرة. لم تقتصر فوائد هذه التجربة على تنمية مهاراتي الفنية فحسب، بل ساعدتني أيضا على فهم أعمق للتعقيدات التي تحيط بحماية الصحة العامة خلال الأزمات".

وبالحديث عن طموحاتها المستقبلية، تسعى عبير إلى توظيف خبراتها المكتسبة من خلال التدريب لتولي أدوار قيادية والمساهمة في النهوض بواقع قطاع الصحة العامة في قطاع غزة. لقد عززت رحلتها في التدريب عزمها على المضي قدما، بل وألهمتها للدفاع عن حق النساء في شغل المناصب القيادية داخل مجتمعها. تجسد قصة عبير القدرة على الصمود والعمل الجماعي في مواجهة التحديات.

تتضمن خططها المستقبلية مواصلة العمل مع امفنت، مع التركيز على برامج تعزيز الصحة، وحملات المياه والصرف الصحي والنظافة (WASH)، ومكافحة سوء التغذية، إلى جانب دعم المتدربين الجدد والمهنيين الشباب الذين يواجهون تحديات مشابهة.

تؤكد عبير أن قرارها لإكمال التدريب خلال الحرب كان قرارا صائبا، فتقول: "لا أملك كلمات كافية للتعبير عن مدى صواب قراري هذا. أنا لست من يقبل الاستسلام، بل أصر على المضي قدما. دافعي الأساسي كان رغبتي الملحة في التعلم واكتساب خبرات تفيدني وتفيد من حولي".

وقد حصدت عبير من خلال تجربة التدريب دروسا قيمة حول الصمود والمثابرة، وتعبر عن امتنانها بقولها: "أود أن أتوجه بالشكر الجزيل لكل من ساندني خلال هذه الفترة، وعلى رأسهم الدكتور هيثم وفريقي وبرنامج التدريب في امفنت الذين وفروا لي بيئة داعمة وودودة للغاية. لولا هذه البيئة، لما تمكنت من إكمال التدريب بنجاح".

وتشيرعبير إلى دور زملائها المتدربين الداعم، وتعبر عن سعادتها بلقاءاتهم الدورية كل أسبوعين، حيث تبادلت معهم خبراتهم وأعمالهم.

تجسد رحلة عبير، من متدربة واجهت تحديات الحرب إلى موظفة فاعلة في شبكة امفنت أروع معاني الصمود والتفاني اللذين يميزان الأفراد المكرسين للصحة العامة، حتى في أحلك الظروف. وتمثل قصتها مصدر إلهام للآخرين، فهي بمثابة شهادة حية على أن العزيمة والدعم والإيمان الراسخ بقوة العمل الجماعي، مفاتيح أساسيةٌ لتجاوز أصعب العقبات وتحقيق النجاحات.